فصل: (فرع: الضمان عن العبد)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة: تصديق المحال يوجب دفع المال]

إذا كان لزيد على عمرو ألف درهم، ولخالد على زيد ألف درهم، فجاء خالد إلى عمرو، وقال: قد أحالني زيد بالألف التي عليك له، فإن صدقه.. وجب عليه دفع المال إليه، ثم ينظر في زيد: فإن صدقه.. فلا كلام، وإن كذبه.. كان القول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحوالة، فإذا حلف.. رجع زيد بالألف على عمرو، ولا يرجع خالد على زيد بشيء؛ لأنه إن كان قد قبض حقه من عمرو.. فقد استوفاه، وإن لم يقبضه.. فله أن يطالبه بحقه؛ لأنهما متصادقان على الحوالة.
وإن كذب عمرو خالدا، ولا بينة.. فالقول قول عمرو مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحوالة، فإذا حلف.. سقطت دعوى خالد، ولم يكن لخالد الرجوع على زيد بشيء؛ لأنه يقر أن ذمته قد برئت من حقه، ثم ينظر في زيد: فإن كان كذب خالدا.. كان له مطالبة عمرو بدينه، وإن صدق خالدا.. ففيه وجهان:
أحدهما قال عامة أصحابنا: يبرأ عمرو من دين زيد؛ لأنه قد أقر بذلك.
والثاني: قال ابن الصباغ: إذا قلنا: ليس من شرط الحوالة رضا المحال عليه.. فإن الحوالة تثبت بتصادق المحيل والمحتال.

.[فرع: الحوالة على غائب]

إذا كان لرجل على رجل ألف درهم، فطالبه بها، فقال من عليه الدين: قد أحلت بها علي فلانا الغائب، وأنكر المحيل.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الحوالة، فإن أقام من عليه الدين بينة بالحوالة.. قال ابن الصباغ: سمعت البينة لإسقاط حق المحيل عنه، ولا يثبت بها الحق للغائب؛ لأن الغائب لا يقضى له بالبينة، فإذا قدم الغائب، وادعى فإنما يدعي على المحال عليه دون المحيل، وهو مقر له بذلك، فلا يحتاج إلى إقامة البينة.
ولو ادعى رجل على رجل أنه أحاله على فلان الغائب، وأنكر المدعى عليه..
فالقول قوله مع يمينه، وإن أقام المدعي بينة.. ثبت في حقه وحق الغائب؛ لأن البينة يقضى بها على الغائب، فإن شهد للمحتال ابناه.. لم تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما، وإن شهد له ابنا المحال عليه، أو أبناء المحيل.. قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على أبيهما... وبالله التوفيق

.[كتاب الضمان]

الأصل في جواز الضمان: الكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72].
قال ابن عباس: (الزعيم: الكفيل).
وأما السنة: فروى أبو أمامة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم فتح مكة، فقال: «ألا إن
الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، ولا تنفق امرأة شيئا من بيتها إلا بإذن زوجها، والعارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم» و(الزعيم): الضمين، فلولا أن الضمان يلزمه إذا ضمن.. لم يجعله غارما.
وروى قبيصة بن المخارق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة إلا لثلاثة " فذكر: «رجلا تحمل بحمالة، فحلت له المسألة حتى يؤديها، ثم يمسك». فأباح له الصدقة حتى يؤدي، فدل على: أن الحمالة قد لزمته.
وأما الإجماع: فإن أحدا من العلماء لم يخالف في صحة الضمان، وإن اختلفوا في فروع منه.
إذا ثبت هذا: فإنه يقال: زعيم، وضمين، وحميل، وكفيل، وقبيل بمعنى واحد.

.[مسألة: ضمان دين الميت]

يصح ضمان الدين عن الميت، سواء خلف وفاء لدينه أو لم يخلف، وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد.
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (لا يصح الضمان عن الميت إذا لم يخلف وفاء لماله، أو بضمان ضامن).
دليلنا: ما روى أبو هريرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤتى بالمتوفى وعليه دين، فيقول «هل خلف لدينه قضاء؟» - وروي: «وفاء» - فإن قيل له: لم يخلف وفاء.. قال للمسلمين: «صلوا عليه»، فلما فتح الله عليه الفتوح.. قال: «من خلف مالا.. فلورثته، ومن خلف دينا.. فعلي قضاؤه». فضمن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القضاء.
«وروى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: مات منا رجل، فغسلناه، وحنطناه، وكفناه، فأتينا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلنا له: صل عليه، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هل عليه دين؟»، فقلنا: نعم، ديناران.. فقال: صلوا على صاحبكم»، وانصرف، فتحملها أبو قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه، وقال: هما علي يا رسول الله، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حق الغريم عليك، والميت منه بريء؟»، فقال: نعم، فصلى عليه».
وروى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحضرت جنازة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هل عليه دين؟» فقالوا: درهمان، فقال «صلوا على صاحبكم» فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأنا لهما ضامن، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جزاك الله عن الإسلام خيرا، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك»، فصلى عليه».
فموضع الدليل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز الضمان عن الميت، ولم يسأل: هل خلف وفاء، أم لا؟ ولأنه لم يكن يمتنع من الصلاة إلا على من مات وعليه دين، ولم يخلف وفاء، بدليل حديث أبي هريرة، وإنما كان امتناعه في أول الإسلام؛ لأن صلاته رحمة، والدين يحجب عن ذلك، بدليل ما روي «عن أنس: أنه قال: من استطاع منكم أن يموت وليس عليه دين.. فليفعل، فإني شهدت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أتي بجنازة، فقالوا: صل عليها، فقال: «أليس عليه دين؟»، فقالوا: بلى، فقال: «ما تنفعكم صلاتي عليه، وهو مرتهن في قبره، فإن ضمنه أحدكم.. قمت، فصليت عليه، وكانت صلاتي تنفعه»، ولأن كل من صح الضمان عنه إذا كان له وفاء بما عليه، صح الضمان عنه، وإذا لم يكن له وفاء كالحي.

.[فرع: ألفاظ الضمان]

قال الطبري: لو قال: تكفلت لك بما لك على فلان.. صح، وإن قال: أنا به قبيل.. لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن القبيل بمعنى: قابل، كالسميع بمعنى: سامع، وإيجاب الضمان لا يكون موقوفا على قبوله، فلم يصح، وإن قال: إلي دين فلان.. لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين، خلافا لأبي حنيفة.
دليلنا: أنه يحتمل قوله: إلي، بمعنى: أزن عنه، ويحتمل: مرجعه إلي لحق استحقه.
ولو قال: خل عن فلان، والدين الذي عليه لك عندي.. لم يكن صريحا في الضمان، خلافا لأبي حنيفة؛ لأن كلمة (عندي) تستعمل في غير مضمون، كقولهم: الوزير عند الأمير.

.[مسألة: أهلية الضمان]

ويصح الضمان من كل جائز التصرف في المال، فأما الصبي، والمجنون، والسفيه: فلا يصح ضمان واحد منهم؛ لأنه إيجاب مال بعقد، فلم يصح منهم، كالبيع.
فقولنا: (بعقد) احتراز من إيجاب المال عليه بالجناية، ومن نفقة قريبه، ومن الزكاة.
وأما المحجور عليه للإفلاس: فيصح ضمانه؛ لأنه إيجاب مال في الذمة في العقد، فصح من المفلس، كالشراء بثمن في ذمته.
ويصح الضمان من المرأة الجائزة التصرف.
وقال مالك: (لا يصح، إلا أن يكون بإذن زوجها).
دليلنا: أن كل من لزمه الثمن في البيع، والأجرة في الإجارة.. صح ضمانه، كالرجل.

.[فرع: الضمان بغير الكلام]

ولا يصح الضمان من المبرسم الذي لا يعقل؛ لأنه لا حكم لكلامه، فأما الأخرس: فإن لم يكن له إشارة مفهومة أو كتابة معقولة.. لم يصح ضمانه، وإن كانت له إشارة مفهومة، وكتابة معقولة... صح ضمانه؛ لأنه حصل مع الكتابة إشارة مفهومة أنه قصد بها الضمان، وإن انفردت إشارته المفهومة بالضمان.. صح، وإن انفردت الكتابة في الضمان عن إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان.. قال ابن الصباغ: لم يصح الضمان؛ لأن الكتابة قد تكون عبثا، أو تجربة القلم، أو حكاية الخط، فلم يلزمه الضمان بمجردها.

.[مسألة: ضمان العبد]

وإن ضمن العبد دينا لغير سيده، فإن كان غير مأذون له في التجارة.. نظرت: فإن كان بغير إذن سيده.. فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح ضمانه؛ لأنه مكلف، له قول صحيح، وإنما منع من التصرف فيما فيه ضرر على السيد، ولا ضرر على السيد في ضمانه، فهو كما لو أقر لغيره بمال.
فعلى هذا: يثبت في ذمته إلى أن يعتق.
والثاني: لا يصح، وهو الصحيح؛ لأنه إثبات مال لآدمي بعقد، فلم يصح من العبد بغير إذن سيده، كالمهر.
فقولنا: (لآدمي) احتراز من النذر.
وقولنا: (بعقد) احتراز من الإقرار؛ لأنه إخبار، ومن الجناية على غير سيده.
وإن ضمن بإذن السيد.. صح؛ لأن المنع منه لحق السيد، وقد أذن فيه، فإن أذن له أن يؤديه من كسبه.. قضاه منه، وإن أطلق الإذن.. ففيه وجهان:
أحدهما: يقضيه من كسبه، كما لو أذن له سيده في النكاح.. فإن المهر والنفقة يقضيان من كسبه.
والثاني: لا يقضيان من كسبه، ولكن يتبع به إذا عتق؛ لأن السيد إنما أذن في الضمان دون القضاء.. فتعلق ذلك بذمة العبد؛ لأنها محل الضمان، ويفارق المهر النفقة، فإنهما يجبان عوضا عن الاستمتاع المعجل، فكان ما في مقابلتهما معجلا.
وحكى أبو علي السنجي وجها آخر: أنه يتعلق برقبته، وليس بشيء.
وإن كان العبد مأذونا له في التجارة، فلا يخلو: إما أن يضمن بإذن السيد أو بغير إذنه.
فإن كان ضمن بغير إذنه.. نظرت:
فإن قال: ضمنت لك حتى أؤدي من هذا المال.. لم يصح الضمان؛ لأن السيد إنما أذن له في التجارة فيما ينمي المال، لا فيما يتلفه.
وإن ضمن له مطلقا.. فهل يصح ضمانه؟ على الوجهين في غير المأذون.
فإذا قلنا: لا يصح.. فلا كلام، وإن قلنا: يصح.. فإنه لا يجوز له أن يقضي مما في يده من مال التجارة، ولكن يثبت في ذمته إلى أن يعتق - وإن ضمن بإذن السيد.. صح الضمان، فإن كان إذن السيد بالضمان مطلقا، فمن أين يقضي العبد دين الضمان؟ فيه وجهان:
أحدهما: من كسبه، أو مما في يده للتجارة.
والثاني: يثبت في ذمته إلى أن يعتق.
وإن أذن له السيد بالضمان في المال الذي في يده فقال: ضمنت لك حقك الذي لك على فلان حتى أؤدي من المال في يدي.. صح الضمان، ولزمه أن يؤدي من المال الذي في يده للتجارة؛ لأن المنع منه لأجل السيد، وقد أذن، فجاز.
فأما إذا قال الحر: ضمنت لك دينك على فلان في هذا المال.. لم يصح الضمان، والفرق بينهما: أن العبد ضمن الحق في ذمته. وإنما علق الأداء في مال بعينه، والحر لم يضمن الحق في ذمته، وإنما ضمنه في المال بعينه، فوزانه أن يقول الحر: ضمنت لك دينك على فلان، وأزنه من هذا المال فيصح الضمان، فإن كان على المأذون له دين يستغرق ما بيده، ثم أذن له السيد بالضمان والقضاء مما في يده من مال التجارة، أو قلنا: يلزمه القضاء منه على أحد الوجهين.. فهل يشارك المضمون له الغرماء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يشاركهم؛ لأن المال للسيد، وقد أذن بالقضاء منه، إما بصريح القول، أو من جهة الحكم.
والثاني: لا يشاركهم؛ لأن حقوق أصحاب الديون متعلقة بما في يده، فصار ذلك كالمرهون بحقوقهم، ألا ترى أن السيد لو أراد أخذ ذلك قبل قضاء الغرماء.. لم يكن له ذلك؟

.[فرع: الضمان عن العبد]

وإن كان في ذمة العبد دين، فضمن عنه ضامن.. صح الضمان؛ لأن الدين الذي في ذمته لازم، وإنما لا يطالب به لعجزه في حال رقه، فصح الضمان عنه، كالدين على المعسر.
قال الصيمري: لو ثبت على عبده دين بالمعاملة، فضمنه عنه سيده.. صح ضمانه، كالأجنبي.

.[فرع: ضمان المكاتب]

وأما إذا ضمن المكاتب دينا على غيره، فإن كان بغير إذن السيد.. فهل يصح؟ فيه وجهان، كما قلنا في العبد القن.
فإن قلنا: لا يصح.. فلا كلام، وإن قلنا: يصح.. كان ذلك في ذمته إلى أن يعتق.
وإن ضمن بإذن سيده، فإن قلنا: يجوز للمكاتب أن يهب شيئا من ماله بإذن سيده.. صار كالعبد المأذون له إذا ضمن بإذن سيده على ما مضى، وإن قلنا: لا يجوز للمكاتب أن يهب شيئا لغيره بغير إذن سيده.. فالذي يقتضي المذهب: أن يصح الضمان، ويتبع به إذا عتق، ولا يقضي من المال الذي بيده قبل أداء الكتابة.

.[مسألة: لا يشترط رضا المضمون عنه]

يصح الضمان من غير رضا المضمون عنه؛ لأن عليا وأبا قتادة ضمنا عن الميتين بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والميت لا يمكن رضاه، ولأنه لما جاز له أن يقضي الدين بغير إذنه.. جاز أن يضمن عنه الدين بغير إذنه.
وأما المضمون له: فهل يعتبر رضاه، فيه وجهان:
أحدهما قال أبو علي الطبري: يعتبر رضاه. وبه قال أبو حنيفة، ومحمد، إلا في مسألة واحدة، وهو إذا قال المريض لبعض ورثته: اضمن عني دينا لفلان الغائب، فضمن عنه بغير إذن المضمون له، وإن لم يسم الدين استحسانا؛ لأنه إثبات مال لآدمي، فلم يصح إلا برضاه، أو من ينوب عنه، كالبيع له، والشراء.
فقولنا: (لآدمي) احتراز من النذر.
والثاني: قال أبو العباس: يصح من غير رضاه. ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، وبه قال أبو يوسف؛ لأن عليا وأبا قتادة ضمنا الدين بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم يعتبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رضا المضمون له، ولأن الضمان وثيقة بالحق، فلم يفتقر إلى رضا من له الوثيقة، كما لو أشهد من عليه الدين بنفسه.. صحت الشهادة، وإن لم يرض المشهود له.
وأما معرفة الضامن لعين المضمون له والمضمون عنه، فهل يفتقر إلى ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لا يفتقر إلى معرفة عين واحد منهما، وإنما يضمن بالاسم والنسب، ووجهه: أن عليا وأبا قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ضمنا، ولم يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل يعرفان عين المضمون له والمضمون عنه، أم لا؟ ولو كان الحكم يختلف بذلك.. لبيَّنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأن الواجب أداء الحق، فلا حاجة إلى معرفة ما سوى ذلك.
والثاني: أنه لا يصح حتى يعرف الضامن عينهما؛ لأن معاملته مع المضمون له، فلا بد له من معرفته؛ ليعلم هل هو سهل الاقتضاء، أم شديد الاقتضاء؟ وقد تبرع عن المضمون عنه، فلا بد من معرفته بعينه؛ ليعلم هل هو أهل أن يسدى إليه الجميل، أم لا؟
والثالث: أنه يفتقر إلى معرفة عين المضمون له؛ لأن معاملته معه، ولا يفتقر إلى معرفة المضمون عنه؛ لأنه لا معاملة بينه وبينه.
قال المحاملي: فإذا قلنا بهذا افتقر إلى قبوله، فإن قبل.. لزم الضمان، وإن رد.. بطل، وإن رجع الضامن قبل قبول المضمون له.. صح رجوعه.

.[مسألة: البيع بشرط الضمين]

وإن باع رجل من غيره عبدا بثمن في ذمته، بشرط أن يضمن له بالثمن ضامن معين.. صح البيع والشرط؛ لأن الحاجة تدعو إلى شرط الضمين في عقد البيع، فإن لم يضمن له الضمين المعين.. ثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه إنما دخل في البيع بهذا الشرط، فإذا لم يف له المشتري بالشرط.. ثبت للبائع الخيار. وإن أتاه المشتري بضمين غير الضمين المعين.. لم يلزم البائع قبوله، بل يثبت له الخيار وإن كان الذي جاءه به أملأ من المعين؛ لأنه قد يكون له غرض في ضمان المعين.
وإن شرط في البيع أن يضمن له بالثمن ثقة.. لم يصح الشرط، وبطل البيع؛ لأن الثقات يتفاوتون، وإذا كان الشرط مجهولا.. بطل البيع.

.[فرع: البيع بشرط الشهود]

وإن باعه سلعة بثمن، بشرط أن يُشهد له شاهدين.. جاز من غير تعيين، وكان عليه أن يُشهد له شاهدين عدلين؛ لأن الأغراض لا تختلف باختلاف الشهود، فإذا لم يشهد له.. ثبت لصاحبه الخيار في فسخ البيع، وإن باعه بشرط أن يُشهد له شاهدين معينين، فأشهد له شاهدين عدلين غير المعينين.. فهل يسقط خيار الآخر؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزم الآخر قبول ذلك، بل يثبت له الخيار في فسخ البيع، كما قلنا في الضمين المعين.
والثاني: يلزم قبول ذلك، ولا خيار له؛ لأنه لا غرض له في أعيان الشهود إذا حصلت العدالة.
ولهذا قلنا: لا بد في شرط الضمين من تعيينه، وفي الشهادة يجوز شرط شاهدين عدلين وإن كانا غير معينين، والذي يقتضي المذهب: أن هذا الشرط في الشهادة يصح أن يكون وثيقة لكل واحد من المتبايعين، ويثبت لكل واحد منهما الخيار إذا شرط ذلك على الآخر، ولم يف الآخر له بذلك؛ لأن للبائع غرضا في الاستيثاق بالشهادة خوفا أن يستحق عليه الثمن، فيرجع به، وللمشتري غرض في الاستيثاق بالشهادة خوفا أن يستحق عليه المبيع، فيرجع بالثمن على البائع.

.[مسألة: فيما له مصير إلى اللزوم]

قال المزني: وكذلك كل ضامن في دين، وكفالة بدين، وأجرة... إلى آخر الفصل.
قال أصحابنا: الحقوق على أربعة أضرب:
أحدها: حق لازم مستقر، كالثمن في الذمة بعد قبض المبيع، والأجرة في الذمة بعد انقضاء الإجارة، ومال الجعالة بعد العمل، والمهر بعد الدخول، وعوض
القرض، وقيم المتلفات، فهذا يصح ضمانه؛ لأنه دين لازم مستقر.
الضرب الثاني: دين لازم غير مستقر، كالمهر قبل الدخول، وثمن المبيع قبل قبض المبيع، والأجرة قبل انقضاء الإجارة، ودين السلم، فهذا يصح ضمانه أيضا.
وقال أحمد في إحدى الروايتين: (لا يصح ضمان المسلم فيه؛ لأنه يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم عليه، فهو كالحوالة).
ودليلنا: أنه دين لازم، فصح ضمانه، كالمهر بعد الدخول.
الضرب الثالث: دين ليس بلازم، ولا يئول إلى اللزوم، وهو دين الكتابة، فلا يصح ضمانه؛ لأن المكاتب يملك إسقاطه، بأن يعجز نفسه، فلا معنى لضمانه، ولأن ذمة الضامن فرع لذمة المضمون عنه، فإذا لم يلزم الأصل.. لم يلزم الفرع، ومن حكم الضمان أن يكون لازما.
وإن كان على المكاتب دين لأجنبي.. صح ضمانه؛ لأنه دين لازم عليه، وإن كان عليه لسيده دين من جهة غير جهة الكتابة.. فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح ضمانه؛ لأنه يجبر على أدائه.
والثاني: لا يصح ضمانه؛ لأنه قد يعجز نفسه، فيسقط ما في ذمته لسيده. وأصلهما الوجهان، هل يستدام ثبوت الدين في ذمته لسيده بعد أن يصير ملكا له؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: يستدام ثبوته.. صح ضمانه. وإن قلنا: لا يستدام ثبوته.. لم يصح ضمانه.
الضرب الرابع: دين غير لازم، إلا أنه يئول إلى اللزوم، وهو مال الجعالة قبل العمل، بأن يقول: من رد عبدي.. فله دينار، فإذا ضمن عنه غيره ذلك قبل رد العبد.. هل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]. فضمن المنادي مال الجعالة، وحمل البعير معلوم.
والثاني: لا يصح؛ لأنه دين غير لازم، فلا يصح ضمانه، كمال الكتابة.
ومن قال بهذا.. قال: لم يضمن المنادي، وإنما أخبر عن الملك: أنه بذل لمن رده حمل البعير، وأن الملك قال: (وأنا به زعيم).
وأما ضمان ثمن المبيع في مدة الخيار: فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه وجهان، كمال الجعالة قبل العمل.
ومنهم من قال: يصح ضمانه، وجها واحدا؛ لأنه يئول إلى اللزوم، ولأن الثمن قد لزم، وإنما له إسقاطه بالفسخ، بخلاف مال الجعالة، فإنه لا يلزم بحال.

.[فرع: ضمان مال السبق والرمي]

وأما مال السبق والرمي بعد العمل: فيصح ضمانه؛ لأنه دين لازم مستقر، فهو كالمهر بعد الدخول، وأما قبل العمل: فإن كان المخرج للسبق أحدهما، أو أجنبيا.. فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان، كمال الجعالة، وإن كان مال السبق منهما، وبينهما محلل، فإن قلنا: إن ذلك كالإجارة.. صح ضمانه كضمان الأجرة قبل انقضاء مدة الإجارة، وإن قلنا: إنها كالجعالة.. كان في ضمان المال عنهما، أو عن أحدهما وجهان كمال الجعالة.

.[فرع: ضمان أرش الجناية]

وأما أرش الجناية والدية: فإن كان دراهم، أو دنانير، مثل: أن جنى على عبد، أو كانت الإبل معدومة، فأوجبنا قيمتها وكانت معلومة، أو قلنا: يجب ألف مثقال، أو اثنا عشر ألف درهم.. صح ضمانها، فإن كان الواجب الإبل.. فهل يصح ضمانها، فيه وجهان بناء على القولين في جواز بيعها.

.[فرع: ضمان نفقة الزوجة]

وأما ضمان نفقة الزوجة: فإن ضمن عنه نفقة مدة قد مضت.. صح ضمانها؛ لأنه دين لازم مستقر، فهي كالمهر بعد الدخول، وإن ضمن عنه نفقة يومه الذي هو فيه.. صح أيضا؛ لأنه دين لازم، فصح ضمانه وإن كان غير مستقر، كضمان المهر قبل الدخول.
وإن ضمن عنه نفقة مدة مستقبلة معلومة.. فهل يصح؟ فيه قولان؛ بناء على أن النفقة تجب بالعقد، أو بالعقد والتمكين من الاستمتاع:
فقال في القديم: (تجب بالعقد، وإنما يجب استيفاؤها يوما بيوم).
فعلى هذا: يصح أن يضمن نفقة مدة معلومة، ولكن لا يضمن إلا نفقة المعسر، وإن كان الزوج وقت الضمان موسرا؛ لأن نفقة المعسر متحققة، وما زاد على ذلك مشكوك فيه.
وقال في الجديد: (لا تجب النفقة إلا بالعقد، والتمكين من الاستمتاع).
فعلى هذا: لا يصح أن يضمن نفقة مدة مستقبلة بحال.